في صيف عام 1972 عندما إجتزت امتحانات القبول في كلية الطب بجامعة تشارلز. أخذونا من ماريانسكي لازني الى براغ و سكنونا في السكن الجامعي بفييترنيك.

كنت ما ازال أعيش في حالة عدم يقين و عدم استقرار حيث كانوا يغرسون فينا في مدارس تركيا و الاعلام هناك فكرة أن الاشتراكية مرعبة ، قصص مرعبة عن الحياة في الغرب.

لكني لم ألاحظ ذلك خلال دراستي لِلغة التشيكية في ماريانسكي لازني لأننا كنا في السكن الجامعي تحت رقابة  وإشراف الأساتذة ولم نخرج الا مرتين او ثلاثة في رحلات.

و غير ذلك لم أكن أعلم كيف ستكون إقامتي عندما تنتهي مدة صلاحية جواز سفري التي كانت ستنتهي بعد عدة أسابيع و لن أستطيع بالطبع الذهاب الى السفارة التركية  وأقول

لهم بأنني أعيش في دولة اشتراكية و أطلب منهم تمديد صلاحية جواز سفري حيث كانوا إما ان يحتجزونني في السفارة أو يأخذوا جواز سفري و يطردونني و يقومون باعتقال أهلي و إخوتي في تركيا حسب القانون الجنائي التركي مادة 141 و 142 تلك الفقرتين اللتين اذا سمع بهما المواطن العادي كاد أن يفقد وعيه من الرعب.

كان هذا ضمن قسمين من القانون الجنائي المتعلقين بالشيوعية و العقوبة المعتادة كانت السجن لمدة 24 عاما.

حيث كان يكفي ان يجدوا عندك في المنزل قاموس لاروس مثلا فيعتقدوا انه كتاب من روسيا و تبدأ هذه الألية بسحقك وقد حدث ذلك بالفعل مع صديقي.

بالإضافة الى ذلك  كنت أعلم انني لو أنهيت دراستي في كلية الطب و أخذت الشهادة الحمراء (التخرج بدرجة الأمتياز)  فمع ذلك لن تعترف تركيا بهذه الشهادة .

مع كل هذا فقد تمكنت من تعلم اللغة التشيكية و نجحت في امتحانات القبول لكن ماذا سيحصل بعد ذلك ببراغ؟

بعد مدة من سكني في غرفة السكن الجامعي الذي كان يشبه السكن في العصور القديمة قررت البحث عن طلاب أكراد ووجدتهم في السكن الجامعي الاخر ،حيث كان أحدهم من تركيا و أصبحنا إثنين فلم أبقى لوحدي.

حينما كنت أسأل أي شخص ماذا سيكون مصيري  بالنسبة لإقامتي أو اذا مرضت أو لم أنجح بالامتحان او اذا كانت السفارة التركية تستطيع الامساك بي عندما تعلم أني في الجمهورية التشيكوسلوفاكية ، كنت اسمع الجواب المعتاد لا تخف نحن عندنا العم محسن (الأخ طارق عقراوي السفير العراقي في النمسا  بعد الاطاحة بصدام). الذي تعرفت عليه في اللحظة الاولى التي وصلت فيها لتشيكوسلوفاكيا و نزلت من القطار في محطة براغ حيث كان ينتظرني و لكن من هو العم محسن هذا؟؟ لم يكن عندي اي علم بذلك.

كان الجميع يؤكدون  بصوت واحد أن العم محسن يقوم بكل شيء و طالما هو موجود هنا فأنا في أمان !

كنت أتساءل من هو هذا الرجل القادر على كل شيء والمليء بالحب والمستعد والراغب  دائما بالمساعدة تفاجأت بأنه السفير العراقي في براغ.

لم أكن أعلم حينها كيف يمكن لسفير ان يكون بهذه المحبة و القدرة على مساعدتنا و مساعدة كل الطلاب من تركيا و ايران و سوريا.

في 11.4.1970 وقعت بغداد مع الزعيم الاسطوري الكردي مصطفى بارازاني عقدا يتضمن أن بغداد تعترف بالحكم الذاتي الكردي و ذلك بعد ثماني سنوات من الحروب الدموية حيث هزم الجيش الكردي في جميع الجبهات الحكومة المركزية في بغداد .

و بعد توقيع العقد  طالب مصطفى البارزاني بأن يكون هناك خمس سفراء من الأكراد ، وحدد  بأي من الدول يريد ان يكون السفير العراقي كرديا و في اول القائمة كانت تشيكوسلوفاكيا!

لماذا تشيكوسلوفاكيا؟ لأن مصطفى بارزاني عاش منذ عام 1946 في المنفى السوفييتي مع مئات المحاربين استطاع العودة أخيرا الى وطنه وذلك بعد عزل الملك في العراق عام 1958.

وقتها لم يعد مباشرة من موسكو لكنه اختار طريق العودة عبر براغ للتعرف على الأحوال الدراسية والمدينة التي وقتها كان يدرس في جامعة الاقتصاد الاقتصادي الكردي الكبير الدكتور عبدالرحمن  قاسملو والذي أغتيل فيما بعد في فينا حيث كان يعيش عام 1989.

حينها لم أتعرف على دبلوماسي او سياسي معين بل على أفضل صديق وأفضل دبلوماسي كردي. من الغريب أن العراق كانت بحاجة له في العراق و مع ذلك بعثته الى براغ.

خطأ! لقد كان مصطفى بارازاني قائدا رائعا للغاية ، عَلِم أن مشكلة الأكراد لن تٌحل بالحكم الذاتي لأنه يوجد أكراد في تركيا و ايران و سوريا لن يستطيعوا الحصول على الحكم الذاتي  وعَلِم أن طريق الوصول للحرية ما زال طويلا جدا لذلك قرر ارسال صديقه محسن ديزيي الى براغ ليحاول الحصول على بعثات لأكبر عدد ممكن من الطلاب الأكراد من جميع أنحاء كردستان الى تشيكوسلوفاكيا ليحصل هؤلاء الطلبة على أعلى مستوى ثقافي و دراسي في جميع المجالات. ابتداءا من الموسيقى وإنتهاءاً بالبتروكيمياء.

كنت مستغربا بالعدد الكبيرمن الطلاب الاكراد هنا في براغ و بالفعل من جميع أنحاء كردستان.فقط من تركيا كنا ثلاثة في كل تشيكوسلوفاكيا ، نحن الاثنان في براغ و الثالث في براتيسلافا . حيث كان حينها القليلون الذين استطاعوا المخاطرة ليس فقط بأنفسهم بل بأقاربهم في تركيا و الذهاب للدراسة الى اي بلد اشتراكي.

لكن من العراق و سوريا كانوا كثيرين.

بعد فترة أخذ أكراد سوريين جواز سفري و أعادوه لي مجددا لمدة سنة ، أكيد بختم مزور

هذه المشاكل كان السوريون يعرفون حلها بطريقة سحرية و لم يقلقوا بشأنها.

و عندما كنت أسالهم ماذا لو علمت بذلك شرطة الأجانب كانوا يجاوبون لا تخف لن تعلم و لوعلمت فعندنا العم محسن ، اليس كذلك؟

إزداد فضولي يوم بعد يوم لمعرفة العم محسن وأزعل من الطلاب الاكراد أنهم لم يسنحوا لي الفرصة لمعرفته و هم يجاوبونني لا تخف ستراه قريبا !

وأخيرا رأيته ،كان انسانا مثقفا للغاية و دبلوماسيا متطورا و كذلك محبا ذو قلب طيب كعم حقيقي!

ثم جاء عام 1973 و اقترب شهر مارس الذي هو الشهر المفضل بالنسبة للأكراد لأنه في يوم 21 مارس عيدنا المقدس الذي كان ممنوعا علينا الاحتفال به حينها و ذلك في جميع البلاد التي كنا نعيش فيها.

في اواخر عام 1972 ذهبت الى قادر ديلان الذي كان كرديا من العراق خريج كلية الفنون الجميلة في براغ . و عضو في الحزب الشيوعي العراقي و موظف في الاذاعة التشيكية في براغ ، و طلبت منه اذا كان بالامكان دعوة محرري الاذاعة الكردية لراديو جيريفان.

راديو جيريفان كانت المحطة الاذاعية الوحيدة التي كانت تبث كل يوم مساءاً نصف ساعة ثم ثلاثة أرباع الساعة باللغة الكردية و الشعب الكردي في جميع أنحاء كردستان كان يشتري حتى بأخر نقوده راديو و أحيانا في القرى كانوا يشتركون كلٍ حسب قدرته بدفع ثمن شراء  جهاز راديو مشترك ، و كانوا يجتمعون مساءاً حول الراديو سرا ليسمعوا فقط بعض الاغاني الكردية.

و أنا كالباقي كنت أجتمع معهم و مع أهلي و جيراني لنستمع للراديو و كان صوت المذيع او المذيعة بالنسبة لنا كصوت آت من الفضاء بالرغم من كل الممنوعات التي كانت مفروضة علينا.

وصل صوتهم الينا في المدن و القرى و الجبال و تحت الامطار و كنت أرغب بمعرفة هؤلاء الملائكة القادمين من غير كوكب.

قادر انصدم في الأول ثم فكر و قال : كيف لم يخطر ذلك ببالي مسبقا ؟ لم لا؟ لن نضيع شيئا في التجربة.

لقد كان مسؤولا كبيرا في الحزب الشيوعي العراقي لكن في المقابل انه هو من ألف النشيد الوطني الكردي .

و بالفعل حقق ذلك و كاذاعة تشيكوسلوفاكية دعا محرري البث الكردي لراديو جيريفان الى براغ بالفعل في الاسبوع الثالث من مارس تواصلوا مع الأمين العام لحزبهم الذي كان وقتها في موسكو و حقق مطلبه.

جرت الأمور كما يجب لكن أين سيتم حفل عيد نيروز في السنة الجديدة في 3.21  لم نكن نعلم حينها.

بدأ طارق عقراوي بالعمل من جديد حيث كان في ذلك الوقت رئيس اتحاد الطلاب الأكراد و نظم ذلك مع العم محسن .

عندما علمنا أن حفلة العيد ستقام في صالة فندق باريس كدنا نموت من الفرح ، العيد الذي كنا نعلم كلنا أنه ممنوع علينا الاحتفال به سنحتفل به في صالة فندق باريس في وسط العاصمة براغ بمشاركة راديو جيريفان.

لأي مدى كان تواصل العم محسن مع قادر ديلان لا أعلم لكن الواضح أنه كان نشيطا لكننا لم نعلم أي شيء و لم يخبرنا بأي معلومات كرجل دبلوماسي.

في هذه الليلة أخيرا جاء و اجتمعوا سويا مع وفود من دولة كردستان المقسمة بالقوة و بدون ارادتها في فندق باريس في براغ.

ترسخ هذا المساء في ذاكرة كل كردي كان موجودا أنذاك ، أكراد من العراق و من سوريا و ايران و تركيا و حتى من الاتحاد السوفييتي.

أكراد ذوو ايديولوجية مختلفة من اشتراكيين و قوميين.

كنا جميعا في نفس الصالة في فندق فخم بالنسبة لنا في ذاك الوقت ببنائه التاريخي و كنا نغني سويا الأغاني الكردية و نحتفل بعيدنا نيروز بحرية بعد ان كان ممنوعا علينا سماع الموسيقى الكردية وحتى التكلم باللغة الكردية.

في هذا المساء و هذه المدينة و هذا الفندق ترك العم محسن و قادر ديلان و طارق عقراوي أثرهم في نفوسنا.

العم محسن كان عماً فعليا .

كان يكفي أن يسمع بأن أحدنا مريض حتى لو ليلا ، ليأتي بسيارته و سائقه للذهاب الى المستشفى وبغض النظر من أي دولة كان ذاك الطالب الكردي.

نحن جميعا الذين كنا نعلم طوال حياتنا أن للدولة قانون أساسي عرفنا شعورا جديدا و هو أن ممثل الدولة الاعلى واقفٌ الى جانبنا وبغض النظر اية دولة يمثل .

لا يمكن وصف هذا الشعور ، ممكن اليهود  يفهموا هذا الشعور قبل تأسيس دولة اسرائيل.

غياب حماية الدولة ، او بالأحرى ليس غيابها بل هو عدم حماية الدولة لمواطنيها.

هذه الجنة و الراحة التامة و اليقين دام حتى عام 1974 ، بعد ذلك لم يجدد صدام حسين اتفاقية الحكم الذاتي للأكراد و عادت الحرب بين الأكراد و بغداد و حينها اختفى العم محسن وأخذ معه هذا الشعور الذي لا يوصف و هو الشعور بالأمان الدولي.

علمنا وسمعنا  فيما بعد بأن العم محسن إستطاع بفضل جوازه الدوبلوماسي السفر ومغادرة تشيكوسلوفاكيا الى بريطانيا العظمى قبل أن تقوم الحكومة التشيكوسلوفاكية بإعتقاله وتسليمه الى الحكومة العراقية بأمر من صدام حسين.

ولعدة سنوات كنت أحاول سماع أخباره عن بُعد و ماذا يعمل وهل هو حي و هل ما يزال يعمل بالسياسة الكردية.

كنت محظوظا حيث استطعت العثور عليه بالفعل قبل سنتين بالعراق و مصافحته و شكره على كل شيء قدمه لنا وقتها في تلك الظروف وفي بلاد الغربة.

نعم ، العم محسن ما زال حيا و يعيش حياة كريمة في عاصمة كردستان العراقية و ما زال يعمل كمستشار للدولة. و ابنه الوحيد الذي سار على خطى والده عمل سنين طويلة كدبلوماسي كردي في البلدان الأكثر خطورة كتركيا و هو الان وزير خارجية أكراد العراق.

بفضل مصطفى بارازاني و فضل العم محسن تخرج عدد كبير من الأكراد في تشيكوسلوفاكيا و بعدها عملوا باختصاصاتهم ووصلوا لأعلى المراتب في كردستان و غيرها.

شكرا عَم محسن !